فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
{والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم} حسا تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ، و{عَلَيْهِمُ العمر} أخسه وأحقره وهو وقت الهرم التي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحاله وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة، ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الخلق} [يس: 68] ففيه مجاز، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن {أَرْذَلِ العمر} خمس وسبعون سنة؛وعن قتادة أنه تسعون، وقيل: خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عامًا فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم، والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقديرين الظاهر أن {مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} يعم المؤمن مطلقًا والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى إرذل العمر لقوله تعالى: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [التين: 5، 6] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلمًا قارئ القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات».
{لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق بيرد، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم عنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساءً بحيث إذا كسب علمًا في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئًا فالعلم عنى العقل لا عناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب شيئًا على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول علم محذوفًا لقصد العموم أي لا يعلم شيئًا ما بعد علم أشياء كثيرة {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر {قَدِيرٌ} على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم قادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران رور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فتدبر.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
{والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم {فَمَا الذين فُضّلُواْ} فيه على غيرهم وهم الملاك {بِرَآدّى} أي عطي {رَزَقَهُمُ} الذي رزقهم إياه {على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية {فَهُمُ} أي الملاك الذين فضلوا والمماليك {فِيهِ} أي في الرزق {سَوَآء} لا تفاضل بينهم، والجملة الاسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى: {بِرَآدّى} أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل: إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو عزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا *رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28] يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} قرينة كما قيل على ذلك، وكذا في قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال} [النحل: 74] والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني {يَجْحَدُونَ} ولتضمن الجحود معنى الكفر جيء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى: ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عنده جل وعلا، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة لرعاية «فما الذين» وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن. والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضًا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئًا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كمًا وكيفًا، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضًا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم، وقيل: التقدير ألا يفهمون فيجحدون؛ واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت، وحاصله أن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرًا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل.
فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدًا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أندادًا لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على مقدر أيضًا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
{والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن {أزواجا} لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام، وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم} أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره {بنيان} وبأن نتيجة الأزواج هو التوالد {وَحَفَدَةً} جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدًا وحفودًا وحفدانًا إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث: «إليك نسعى ونحفد» وقال جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ** بأكفهن أزمة الأجمال

وقد ورد الفعل لازمًا ومتعديًا كقوله:
يحفدون الضيف في أبياتهم ** كرمًا ذلك منهم غير ذل

وجاء في لغة كما قال أبو عبيدة أحفد أحفادًا، وقيل: الحفد سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذٍ بالواسطة، وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانًا بوجه المنة فإنهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون ذلك امتنانًا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادًا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد عنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. والبخاري في تاريخه. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ** لها حفد مما يعد كثير

ولكنها نفس على أبية ** عيوني لأصهار اللئام تدور

والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على {بنيان} لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج. وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى. وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح، وتجعل {مِنْ} سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب بأن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضًا قدر أي وجعل لكم خدمًا يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أنه باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: {من أزواجكم} على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا إجراء الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدًا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادًا للتشويق وتقوية له.
{وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر. وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضًا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و{مِنْ} للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
{أفبالباطل} وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن {وَبِنِعْمَتِ الله} المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان {هُمْ يَكْفُرُونَ} أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم.
والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه: {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} فقط دون ما قبله أيضًا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لاسيما وقد حصروا، وأيضًا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم نزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدًا وتخصيصًا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفًا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء {يَكْفُرُونَ} على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرًا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفًا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس قام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره نزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أوب الواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيًا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبًا لهم مما فعلوه. وفي البحر أن السلمي قرأ {تُؤْمِنُونَ} بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردًا عن الكفرة غير مندرج في التقريع.
هذا بقي أنه وقع في العنكبوت (67) {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} بدون ضمير ووقع هنا ما سمعتب الضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [النحل: 71] أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارًا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيًا في الذم بعيدًا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجرى على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد نكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 67] بدون ضمير وقيل: {وبنعمة الله هم يكفرون} به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية، واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير وينبى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناءً بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} [العنكبوت: 52] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا بيكفرن وفيما قبل {يَجْحَدُونَ} [النحل: 71] لأن ما قبل كان مسبوقًا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم.